مشروع رفع مرتّبات المعلّمين (ألقي أمام جمهور غفير من المعلّمين بتاريخ5 ك1 1948)
سيّداتي سادتي إخواني:
لبنان لن يكون يومًا مفخرة أبنائه بقوّاته العسكريّة ولا بمنتجاته الصناعيّة، فهذه كانت وستبقى وقفًا على البلدان الكبيرة بأرضها الوسيعة بسهولها، فلا مجال لنا للمنافسة في هذا المضمار؛ لذلك لم يبق لنا إلّا العلم ما نعتمد عليه في الغد اعتمادًا قويًّا نبني به مستقبلًا لأبنائنا ووطنًا نفتخر به، فهو السلاح الذي يحمينا ويردّ عنّا عوادي الدهر وغوائله؛ فالعلم كائن سداه ولحمته المدرسة، والمدرسة جسم جامد قلبه وروحه المعلّم.
فإذا ما أراد لبنان أن يكون وطنًا يرضى أن يعيش فيه اللبنانيون مرفوعي الرؤوس، فما عليه وعلى حكومته الكريمة إلّا أن يعنيا بالمعلّم قبل عنايتهما بأيّ أمر من الأمور الأخرى، مهما جلّ شأنها، فالمعلّم الراقي هو الشمعة التي بها يستنير الشعب والمنارة التي ترسل نورًا مشعًّا إلى الآفاق القريبة والنائية.
والتربية والثقافة والعلم ليست سوى أنسجة حاكها المعلّم على اختلاف درجاته، بخيوط من نور عقله وبلّلها بعصارة قلبه. وقد فطن مفكّرو الغرب بعدما يئسوا من الأساليب العاجزة عن إيقاف تيّارات الحروب الرهيبة وفكّروا مليًّا فأسّسوا الأونسكو واسطة لمكافحة الجهل وبثّ روح الآخاء والمحبّة ونشر السلام بين مختلف الشعوب؛ منظّمة قائمة على أركان ثلاثة: التربية والثقافة والعلم.
ونحن نشهد الآن مؤتمر الأونيسكو ينعقد بين ظهرانينا ويدعى فيه إلى تحقيق المثل العليا وكم ويسرّنا نحن القائمين على شؤون التربية والثقافة والعلم في هذا البلد، أن نرى خيرة رجال الفكر في العالم يجعلون من بيروت عاصمة للإشعاع الفكريّ.
وقد أحسنت الحكومة صنعًا لاهتمامها بتنظيم المؤتمر صارفة الملايين لتظهر بمظهر الشعب الراقي، وهو عمل لعمري جليل، وليس هو بالعجيب، يصدر عنها وهي تعرف عادات العرب في الكرم، لكنّ الأمر العجيب الذي يسترعي الانتباه هذا التناقض:
الاهتمام الكلّي وصرف الملايين من الليرات للظهور بمظهر شعب ذي تربية وثقافة وعلم، وإهمال تقريبًا كلّي للمعلّم، الذي هو أساس للتربية والثقافة والعلم. نعم العجيب هذا الإهمال لألوف المعلّمين اللبنانيّين كأنّهم غرباء لا يستحقّون عناية أولي الشأن والمشرفين على مستقبل ناشئة هذا الوطن.
إنّ المعلّمين مهضومو الحقوق من الناحيتين المادّيّة والمعنويّة، ونقابة المعلّمين التي ترأسها وزير المعارف الأسبق الأستاذ "الكفوري" ثمّ الأستاذ "بطرس البستاني" والطيّب الذكر المرحوم "بولس الخولي" عملت ما بوسعها ولا تني تعمل لإيصال المعلّمين إلى حقوقهم. فقد أعدّت مشروع قانون في حزيران 1946 بعد درس بضعة شهور واطّلاعٍ على قوانين معمول بها في عدّة بلدان اهتمّت فيه بتعيين المعلّمين ومرتّباتهم وترقيتهم وإجازاتهم وتعويضهم وضمانة مستقبلهم وواجباتهم وعقوباتهم وعلاقتهم بالنقابة، ورفعته في أواخر حزيران من السنة ذاتها إلى وزير التربية في ذلك الحين الأستاذ "فيليب تقلا" ليدرسه ويرفعه بدوره إلى الندوة النيابيّة لمناقشته وإقراره؛ فاهتمّ به الوزير جدّيًا، ورفع على إثر مطالعته واتّصاله مرارًا بالنقابة وأرباب المدارس، إلى المجلس النيابيّ الموقّر، مشروع قانون يقضي بتعديل نظام الأساتذة في معاهد التعليم الخاصّة بتاريخ 21 آب 1946 وهذا النظام الذي طلب الوزير تعديله هو المرسوم الاشتراعي الصادر بتاريخ 31 آب 1944. وقد ذكر الأستاذ "تقلا" في مشروعه الأسباب الموجبة في بيان جميل نقتطف منه ما يلى: "وقد رأت وزارة التربية الوطنيّة وضع هذا النظام لتعيين مسؤوليّات كلّ من رؤساء المدارس وأفراد الهيئة التعليميّة وتحدّد شروط العمل والتعيين والترقية فوجّهت اهتمامًا خاصًا نحو المعلّم باعتبار أنّه عنصر حيويّ من عناصر الأمّة اللبنانيّة التي تمتاز، في جملة ميّزاتها، بهذه الثقافة العريقة الأصول الشاملة الفروع".
ثمّ قال: "كان لابدّ لوزارة التربية من أن تهتمّ بمعلّمي معاهد التعليم الخاصّة وقد أصبحوا يعانون من الأزمة المعاشيّة التي يعانيها أصحاب المرتّبات المقنّنة، كما أنّه كان عليها كذلك أن تهتمّ بمعلّمي معاهد التعليم الثانويّ وليس لهم ملاك يصنّفون بموجبه. فرأت أن تسنّ قانونًا شاملًا تضع فيه مبادىء عامّة لتصنيف الأساتذة والمعلّمين وتدريج طبقاتهم وتعيين أسس لمرتّباتهم وهي تنظر في ذلك إلى مصلحة المعلّمين وإلى مصلحة المعاهد على السواء، ولا ازدهار لهذه إلّا بتأمين الحياة المطمئنة لأولئك. أمّا اليوم فبعد أن تغيّرت أحوال المعيشة عن سنة 1942 وبعد أن استفاد الموظّفون والمستخدمون والعمّال من زيادات شتّى أضيفت إلى رواتبهم في ظروف متباينة، رأت الوزارة أن تولي اهتمامها للمعلّمين، فوضعت هذا المشروع آملة أن يوفّق بين المصالح جميعًا".
وهذا المشروع الذي وضعه الأستاذ "تقلا" منذ أكثر من سنتين لا يحقّق للمعلّمين إلّا بعض مطاليبهم لذلك اعترض عليه مجلس النقابة خصوصًا على الناحية المتعلّقة بالمرتّبات إذ اقترح الوزير"تقلا" أن يتراوح بين 190 ليرة أساسًا للأستاذ من الدرجة الممتازة وأربعين ليرة أساسًا للمعلّم من الدرجة الخامسة، في حين طلبنا أن تتراوح هذه المرتّبات في الدرجتين المذكورتين العليا والسفلى بين 240 و 70 ليرة أساسًا.
ولكن لسوء الحظ ضربت لجنة التربية الوطنيّة في المجلس النيابيّ بمشروعنا ومشروع الأستاذ "تقلا" عرض الحائط دون أن نعرف لذلك سببًا. إلّا أنّ أعضاء النقابة لم ييأسوا فاتّصلوا بعدد من النوّاب مرارًا واجتمعوا برئيس المجلس النيابيّ الأستاذ "أبو شهلا" في شباط 1947 بحضور وزير التربية "الياس الخوري" وممثّلي المدارس الخاصّة وعرضوا قضيّتهم فلاقوا آذانًا صاغية وتصويبًا لمشروعهم إنّما بالقول فحسب، واتّصلوا برؤساء الوزارة فلم يحصلوا إلّا على الوعود والاعتراف بأنّ المعلّم مسكين مغبون، والواجب الوطنيّ يقضي بإنصافه، وكأنّه يستطيع العيش بالوعود والاعتراف بالمسكنة والغبن.
واتّصل مجلس النقابة أيضًا بجميع لجان التربية في المجلس النيابيّ القديم ووزير الشؤون الاجتماعيّة فما جنى سوى الخيبة، وانتظر المجلس النيابيّ الجديد المنتخب في ربيع 1947 فراجع بعض نوّابه ورئيسه لعلّه يصل على أيديهم إلى ما فاته الوصول إليه من قبل، فكان أعضاؤه يستقبلون باللّطف والإيناس كالعادة، ولكنّ النتيجة، ويا للأسف، لم تكن إلّا العبارات المعسولة والابتسامات الواسعة.
وأخيرًا تفاءلنا بتعيين الدكتور"الكريم رئيف ابي اللمع" رئيس لجنة التربية في المجلس النيابيّ الجديد فتعلّقنا به ملحاحين "تعلّق الأقرع بقبّعته" وعلّقنا عليه الأمل في إقناع النوّاب بإقرار مشروعنا لمّا رأيناه مكبًّا على درسه بحماس، يشبعه معالجة، وزدنا تفاؤلًا عندما قادت الصدف السعيدة يومًا، إلى أحد اجتماعاتنا، فخامة رئيس الجمهوريّة بالذات، فأصغى إلى مطالبنا وأعارها اهتمامه مشيدًا بفضل المعلّم على البلاد، موصيًا الدكتور ببذل كلّ جهد لحلّ قضايا المعلّمين، ولكن خابت آمالنا مرّة آخرى ولم نصل إلى شيء إيجابيّ ولم نَجْنِ إلّا كلامًا.
وشعر الأعضاء من خلال الاتّصالات العديدة أنّ هناك أيادي تعمل في الخفاء وإرادة تسعى لعرقلة مساعي النقابة والمعلّمين وإبقائهم في حالة من الضعف والفوضى، إمّا لاستثمارهم كما هي الحال في عدد من المدارس وإمّا لسبب آخر لا نزال نجهله.
إنّ المشروع الذي رفعناه إلى الوزارة طلبنا فيه فيما طلبنا، أن يعامَل المعلّمون في المدارس الخاصّة بما يعامل به أمثالهم في المدارس الرسميّة على الأقلّ من حيث الرتب والمرتّبات، وهذا لعمري ليس مغالاة في المطلب ولا إحراجًا لموقف المدارس الماليّ بل هو أقلّ ما يجب أن يرضى به معلّم يحترم نفسه.
وليست الزيادات الماليّة هي هدفنا الأوّل وإن كانت مهمّة، إذ لسنا نطمح في ثراء المعلّم عن طريق التعليم بل نريد كما قال الغزالي يومًا لمن سأله عمّا يجب أن يتقاضاه المعلّم: "إنّ للمدرّس أن يأخذ ما يكفيه ليتوقّف قلقه على المعيشة وليتفرّغ للعلم ويتجرّد لنشره". ولكنّ هدفنا الأكبر هو رفع المستوى المعنويّ للمعلّم وإعلاء منزلته وتحبيب مهنته إليه، حتّى لا ينفر منها ولا يزاولها إلّا كجسر عبور ريثما يحظى بعملٍ آخر.
نحن أصحاب عقيدة وإيمان في مهمّتنا التربويّة، نسعى إلى خلق نظام يدعم المدرسة اللبنانيّة، نظام تعمل على تحقيقه في العالم منظّمة الأونيسكو، ولسنا لنحارب أرباب المدارس، فإذا كانوا هم ينظرون إلينا من خلال نوافذ مصالحهم المادّيّة، فإنّنا ننظر إليهم نظرة الخائف على مستقبل التربية والثقافة والعلم، نظرة المشفق على مصلحة الناشئة في لبنان.
إنّ المدارس الخاصّة عندنا في لبنان فئتان: فئة تظهر استعدادها لتنفيذ كلّ قرار تتّخذه وزارة التربية في قضايا المعلّم، وهي أكثريّة المدارس الاجنبيّة، وفئة تعارض لأنّها تخاف الوقوع في عجز من جرّاء تطبيق ذلك القرار وزيادة مرتّبات المعلّمين، وهي المدارس الوطنيّة.
ومدارس الفئة الثانية نوعان: نوع يجني ربحًا وفيرًا لأنّه يتقاضى أجورًا وافية من التلاميذ ويدفع مرتّبات ضئيلة للمعلّمين؛ فإذا ما زاد مرتّبات هؤلاء لا يقع في العجز، ولكنّ المصيبة عندئذ أنّه يُحرم الربح – ومتى كانت المدارس الراقية واسطة للكسب الماديّ؟ ونوع آخر لا يستطيع الزيادة دون الوقوع في ذلك العجز؛ وهذا النوع ومنه المدارس الخيريّة، تعاهده النقابة أن تتعاون وإيّاه لمطالبة الدولة بتسديد ذلك العجز بعد أن تقف هيئة مختصّة على سجلاّته، لأنّ مدارسه تؤدّي خدمة وطنيّة عامّة في تربية النشء، خدمة هي في الأساس من خصائص الدولة، لذلك فالعدل يقضي والمصلحة العامّة تقضي بأن تدفع له ما يسدّد به عجزه الحقيقيّ ليتابع مهمّته السامية.
أيّها الزملاء الكرام، هذه لمحة موجزة عن مشروع قانون المعلّمين الذي أعدّته النقابة، ونظرة عامّة عن المعلّم أعرضها على مسامعكم ولم يحقَّق شيء من مطالبكم العادلة بعد، ولكن لا تظنّوا أنّ النقابة يئست من متابعة السعي، فإنّها ستطالب بحقوقكم بإيمانٍ ثابت، وقد أرادت من دعوتها إيّاكم إيقافكم على ما جرى لتزوّدوها بقوّة من إيمانكم وروحكم الوثّابة، وتشاركوها في العمل متضامنين موحّدين بشتّى الأساليب الممكنة، فربّما استطعتم أن تقوموا بما لم نستطعه نحن، فتلفتوا به نظر أولي الأمر إليكم لعلّهم يوصلونكم إلى حقوقكم المقدّسة ومطالبكم العادلة.
أخذ الله بأيدينا جميعًا والسلام عليكم.
ألقي بتاريخ 5 ك1 1948
أمام جمهور غفير من المعلّمين